غير مصنف

“مُمكِن أقعُد معاك شوية؟”.

“مُمكِن أقعُد معاك شوية؟”.
الصوت خلاني تقريبًا أنُط من مكاني، سيبك بقى من شعري اللي قشعَر وجسمي اللي إترَعَش، أصل أنا واحِد قاعِد في الصحرا، أدام شوية نار قرَّبوا يتطفوا، مفيش حد حواليا خالِص، بعد نُص الليل، والقمر متداري ورا سحابة تقيلة.
آخر حاجة كُنت أتوقَّعها… هي إني أقابِل حد تاني هنا… في قلب الصحرا!
***
قعد أدامي، لابِس جلابية سودا شكلها غالي، الغريب إنها مفرودة على جسمه ونضيفة، كأنها… كأنها لسَّه خارجة من الدولاب دلوقتي، غريبة أوي!
الريح كانِت قوية، هزَّت النار شوية، سمعت النار بتطقطق وتوقَّعت إنها تتطفي، لكنها قاومِت وفضلت مكمِّلة، بصيت على عربيتي بطرف عيني، عربية دفع رُباعي كبيرة تنفَع للمشي في الصحرا، ابتسمت وأنا برمي كام غُضن ناشفين في النار، بصيت له، كان باصصلي بطريقة غريبة شوية، قرَّرت أدخُل في الموضوع على طول، قُلتله: “مش غريبة شوية حد يبقى ماشي في الصحرا بالليل متأخَّر كدا؟ وعلى رجليه؟”.
ابتسامته وسعت لثانية، صحيح الضلمة مخلياني مش مركِّز في كُل تفاصيله، بس أنا مُتأكِّد من اللي شُفته، رد عليَّا بسُرعة، ومن غير ما ياخُد وقت في التفكير: “ومش أغرَب إن حد يُقعد في قلب الضلمة لوحده كده ومولَّع نار كأنه بيقول للي مش هيشوفه من عتمة الليل… أنا أهو!”.
ضحكت وأنا بقوله: “أعتقِد كدا أحسن ما كُنت أقعُد في الضلمة لوحدي”.
قالي: “أحسن كتير”. بص للعربية ثواني قبل ما يقولي: “دي عربيتك؟”.
هزيت راسي ببطء، ابتسم وقالي: “حلوة ما شاء الله، ربنا يديك خيرها ويكفيك شرّها”.
قُلتله: “تسلَم”.
قعدنا في صمت للحظات، جسمي كان بيترعش من برد الصحرا، رغم لفحة الهوا الدافي اللي جايالي من ناحية النار، بصيت عليه… كان قاعِد هادي ولا كأنه حاسِس بحاجة، باصصلي من غير ما يبقى فيه أي تعبيرات على وشه، رميت كام غُصن تاني ناشفين، سمعت النار وهي بتطقطق قبل ما أقوله بهدوء: “تعرَف إنك خوِّفتني فعلًا؟ فكَّرتك ساكِن الليل!”.
ابتسامته وسعت وهو بيقول: “تعرَف… أنا أصلًا كُنت خايِف أقرَّب منك، قُلت دا أكيد ساكِن الليل قاعِد بيصطاد فريسة ولا حاجة، وكُنت هكمِّل مشواري لوحدي”.
قرَّرت إن أقصر طريق بين نُقطتين هو الخط المُستقيم، فسألته: “هو إنت بتعمل إيه هنا؟”.
قالي: “كُنت لسَّه هسألك نفس السؤال، عمومًا أنا واحِد من قبيلة من قبايل البدو هنا، ورايح من قبيلتي لقبيلة تانية أجيب نوع دوا عشان عندنا واحِد مريض والدوا مش مكفيه، وإنت؟ إنت مش من البدو! أنا عارفهم كويّس”.
هزيت راسي وأنا بقوله: “لا مش من البدو خالِص، أنا واحِد عادي من عُشَّاق الصحرا، بحب أستكشِف الصحاري في رحلات طويلة بتقعُد بالأيام”.
رفع حواجبه وميِّل راسه شوية وهو بيقول بدهشة: “لوحدك؟”.
هزيت راسي، بلعت ريقي بصعوبة، كُنت بدأت أتوتَّر منه، سألني: “يعني إنت مش من هنا؟”.
هزيت راسي: لا مش من هنا، ولو إنت كُنت ساكِن الليل وقرقشت عضمي… محدِّش هيحس بيّا! بس مقولتش ولا كلمة من دا، حاولت أتظاهَر بالشجاعة وأنا بقوله: “لأ… مش من هنا”.
وقبل ما يبتسم، قُلت: “مستني الفوج بتاعي جايين كمان شوية، على المكان دا”. بصيت في ساعتي قبل ما أقول: “زمانهم على وصول”.
قالي: “كويّس… أنا خايِف عليك لوحدك”.
قُلتله: “مش من باب أولى تخاف على نفسك؟”.
ابتسم وهو بيقول: “ومين قالَك إني مش خايف على نفسي؟ بيني وبينك… أنا مرعوب”.
سكت وهو بيلعب في الرملة اللي تحته، سمعت الريح بتعوي في مكان بعيد، ولا دا ديب؟ مش عارِف… صوته خرجني من تساؤلاتي وهو بيقول: “عرفت عن ساكِن الليل منين طالما إنت مش من هنا؟”.
حاولت أتكلم بس صوتي خرج محشرج، مش مُشكلة… أحسن ما يخرُج مرعوش أو مليان قلق، كحيت عشان أسلَّك زوري وأنا بقوله: “محدّش بيدخُل صحرا من غير ما يعرف كُل حاجة عن اللي مستنيه فيها”.
“قالولك إيه عنه؟”.
“قالولي إنه جن، من عشيرة بتسكُن الصحاري، كان عايش في الصحرا لحَد ما وقع في غرام واحدة من البدو، اتجسِّد لها في هيئة شاب وسيم، وقعت في غرامه، وإتجوّزته، وخلفت منه، لحَد ما بالصُدفة… شافت حقيقته في يوم، خدت عيالها وهربت منه، دوَّر عليها كتير، ولأنها من البدو… فضل تايه في الصحاري لحَد يومنا دا… بيدوَّر على ولاده، ولو حد قابله… بيقتله، ياكل لحمه، ويقرقش عضمه”.
“إنت عارف القصة بالتفصيل… يمكِن أكتر مننا”.
“طيب يا ترى بقي… القصة دي حقيقية؟”.
“يمكِن آه ويمكِن لأ… محدِّش عارف الحقيقة، ومحدِّش قابله وعاش عشان يقولنا حقيقية ولا لأ”.
هو… هو دا تهديد؟ ابتسمت عشان أداري توتُّري وأنا بسأله: “يعني إيه محدِّش قابله وعاش؟”.
“محدِّش شاف ساكِن الليل وفضل عايش بعدها عشان يقولنا الحكاية حقيقية ولا لأ… وصحيح إحنا منعرفش الموضوع دا… بس نعرف حاجة تانية كويِّس أوي”.
“حاجة؟ حاجة إيه؟”.
صوت الهوا وهو بيعوي رهيب، مش عارِف هل هيكون أحسن لو كُنت قاعِد لوحدي، ولا كويِّس إنه قاعِد بيونسني… الحقيقة… إنه موترني جدًا!
قالي: “نعرف إنه موجود… لأ… إحنا مُتأكِّدين إنه موجود”.
“مُتأكِّدين؟ إزاي؟”.
“إحنا من سُكَّان الصحرا، دايمًا بنلاقي آثار للناس اللي حظهم وحش اللي قابلوا ساكِن الليل، بنلاقي هدومهم المتقطَّعة، وعضهم المكسَّر، اللي بيلمع ومعليهوش ولا حتة لحم، والأهم من دا كُله… بنلاقيهم جنب نار زي دي… بس عادةً بتكون إتطفت!”.
“يعني إيه؟ يعني بيولَّع النار عشان يستدرِج بيهم ضحاياه؟ ولا هو اللي بيروح على النار اللي الضحايا مولعينها؟”.
“يمكِن ويمكِن… محدِّش عارِف الحقيقة فين، زي ما قُلتلك… محدِّش قابله وعاش عشان يقولنا”.
كُل مدى كلامه بيبقى غامِض أكتر… وموتِّر أكتر… وبيقلقني منه أكتر وأكتر.
سألته: “وبتعرفوا منين إن العضم دا بسبب ساكِن الليل؟ ما يمكِن الناس دول حظهم وحش وقابلوا ديب ولا حاجة من الحاجات اللي بتسكُن الصحاري عادي؟!”.
قالي: “لسببين، العضم المتكسَّر… مفيش حيوان بيكسَّر العضم أبدًا، ساكِن الليل بس هو اللي بيكسَّر العضم وهو بيقرقشُه”.
وسكت! سألته: ” والسبب التاني؟”.
قالي: “العضم نفسه… بيبقي نضيف، بيلمع، وكأن…”. سكت وإتلفِّت حواليه وهو بيقول: “وكأن حد أكل اللحم كُله وساب العضم نضيف… بيلمع بالشكل دا”.
سألته: “حصل وشُفت حاجة زي كدا؟ ولا كُله كلام سمعته وخلاص؟”.
بصلي في صمت شوية، النار كانت بترقُص أدامنا، والضل بيرقص على وشه من وراها، بعد شوية قالي: “شُفت… أكتر من مرة، عضم مكسَّر… بشكل وحشي… مش طبيعي… ونضيف نضافة مش طبيعية… وكُنت عارِف… كُنت عارِف من أول ما شُفته إن دا بسبب ساكِن الليل”.
جسمي قشعر، مش عارِف من كلامه ولا من برد الليل ولا من عتمة الصحرا اللي محاوطانا من كُل مكان، سألني بعدها: “وإنت؟ شُفت؟”.
قُلتله: “شُفت… والغريبة إني شُفت من دقايق قُليلة”.
قالي: “يعني إيه؟”.
شاوِرت بدماغي ناحية العربية اللي واقفة قُريِّب مننا، بصلي… كان مستني شوية شرح، بس أنا سكت وأنا باصص في عينيه، قام… فضوله كان أقوى منه… مشى ناحية العربية كام خطوة… قبل ما يبُص وراه… وكأنه… وكأنه بيتأكِّد إني مكاني!
بص جوا العربية، وعلى نور النار الخفيف شافهم، عيلة كاملة… أب وأم واتنين ولاد… أو بمعنى أصح… الباقي من عضمهم بعد ما كلتهم وقرقشت عضمهم، فهم… بس متأخَّر أوي، مكانش محتاج يبُص وراه، لأنه كان شايف إنعكاسي على الإزاز وأنا بقرَّب منه، كان شايف ملامحي وهي بتتبدِّل… كان شايفني وأنا بقرَّب منه، همس بخوف: “إنت… إنت ساكِن الليل”.
الريح كانت قوية، طفت النار، صوت صريخه كان عالي… بس صوت ضحكي كان أعلى!
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى